المادة    
يقول المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[وحقيقة الأمر: أن قول القائل نحمله عَلَى كذا، أو نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده، دفع معناه، وقَالَ: أحمله عَلَى خلاف ظاهره] إهـ.
الشرح:
هذه قاعدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ التي بها عرفوا مدخل أهل البدع، وأصل أهل البدع في جميع الصفات، ولماذا ينفونها؟ وهو أنهم لما قالوا في آيات الصفات نحملها عَلَى كذا ونحملها عَلَى كذا أرادوا أن ينفوا المعنى.
فمثلاً علو الله تَعَالَى نفوه وعندما أتوا إِلَى الآيات التي تثبت العلو لم يقولوا: إن الله لم يقل في القُرْآن أنه العلي، أولم يقل في القرآن: ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك:16] لأنهم لو فعلوا ذلك لوقعوا في الكفر الصريح الواضح، فهم لا يريدون إثبات المعاني ويريدون أن تبقى الألفاظ، حتى لا يُقَالَ: إنهم أنكروا ألفاظ الكتاب والسنة، فَقَالُوا: لفظ العلو يحتمل معنيين معنى كذا ومعنى كذا، فنحن نصرفه عن المعنى هذا، ونأخذ المعنى الآخر، وهذا مدخل يريدون به أن يبقى اللفظ مجرد رسم وينفوا حقيقته التي أرادها الله تعالى، هذا هو حقيقة مذهبهم وهكذا فهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مرادهم، فهم لا يستطيعون أن ينفوا الآيات لكن يأتون بما يخلي الآية ويفرغها من مضمونها ومحتواها.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: بل للحمل معنى آخر، لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً لا ابتداءً] إهـ..
الشرح:
رد أهل البدع والمتكلمون عَلَى ما قلناه فَقَالُوا: نَحْنُ لم نقصد ما قلتموه بل للحمل معنى آخر لم تذكروه ولم تنتبهوا له يا أهل السنة وهو: [أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد فحملناه عليه دلالة لا ابتداء].
أي: أننا لم نرد من أول الأمر أن نغير النصوص ونفرغها من معانيها، ولكن عندما قرأنا هذه النصوص استحال بالعقل أن نقول إن الله فوق العالمين بذاته! هكذا قالوا! فاضطررنا أن نؤوله هذا حال المؤولين.
  1. من مداخل المؤولين والرد عليهم

    والرد عليهم واضح ومعلوم للجميع، أنه إذا كانت العقول تدرك ما يجب لله وما لا يجوز قبل أن تأتي النصوص، فما الحاجة إِلَى الوحي؟
    أما الآخرون فيقولون: نَحْنُ قرأنا الآيات والأحاديث لأننا نريد أن نفهم منها ما يجب لله وما لا يجوز، فلما قرأناها وجدنا أن فيها نصوصاً يستحيل إثباتها عقلاً، ولهذا أولناها، ووجدنا نصوصاً أخرى لا يحكم العقل باستحالتها فأثبتناها.
    وإذا قالوا: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل، فنرد عليهم بأن الله تَعَالَى أنزل في كتابه هذه الآيات الكثيرة وبلغها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر جملة من الصفات وفهمها هو والصحابة، والصحابة تعلموها وعلموها غيرهم، وما اضطروا إِلَى تأويلها حتى جئتم أنتم في القرن الخامس وفي القرن السابع والثامن، وقلتم: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل!!
    إذاً.. الخطأ في فهمكم أنتم عندما قلتم: يستحيل عقلاً إثباتها، ومعارضتكم للنص -أصلاً- خطأ ولو جعلتم عقولكم تابعة للكتاب والسنة ما وقع عندكم هذا، ولا اضطررتم إليه، وبعضهم يقول: نَحْنُ مضطرون إِلَى أن نؤول حتى لا يكون في كتاب الله تصادم وتناقض! سُبْحانَ اللَّه! ينزل الله في كتابه الهدى والبيان، وأنت أيها العبد الضعيف تأتي بعد قرون تؤول بعضه وتترك بعضه حتى لا يكون متناقضاً! كَانَ الأحرى بك عند توهمك التعارض أن تتهم عقلك وفهمك وأن تسأل أهل العلم كيف يجمعون بين الآيات وبين الأحاديث عند توهم التعارض. وبهذا يعلم أن القوم منهجهم التحريف في نصوص الكتاب والسنة ولا ضابط لهم إلا الهوى والتحكم بغير دليل، وهم فروا من التشبيه ووقعوا في شر منه وهم لا يشعرون.
  2. ذكر استدراك يستخدم في لغة العرب

    ولهذا أجاب المُصنِّف فَقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
    [قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده؛ بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعمية عَلَى السامع حيث يسوغ ذلك، ولكن المنُكَر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده، كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ويكرره غير مرة ويضرب له الأمثال] اهـ.
    الشرح :
    ذكر المُصنِّف أن الاستدراك الأخير جائز، وقد يقع في لغة العرب أو عند بعض النَّاس وذلك مثل الألغاز اللغوية أو الألغاز النحوية، وهو أن يأتي الشخص بكلامٍ ولا يقصد ظاهره ليعمي عَلَى النَّاس وحتى لا يعرف المعنى الذي قصده صاحب اللغز وهو يريد التعمية عليك، ويقع هذا -أيضاً- في المعاريض، فلو سألك شخص أين فلان؟ وهو عندك، وتخشى عليه من صاحب ظلم وشر يريد أن يبطش به، فتقول: ليس هنا! وتشير إِلَى إصبعك فهذا وأمثاله يسمى المعاريض، وهي جائزة في الشرع إذا كانت المصلحة راجحة، فتستخدم مثل هذه الأمور من أجل التعمية والتورية.
    لكن هل ينطبق هذا عَلَى الكتاب والسنة؟ بمعنى هل ينزل الله شيئاً في كتابه ويريد به التعمية علينا حتى لا نفقه ظاهره؟ أو أنه جَاءَ بأوضح البيان وقال الله فيه: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً)) [آل عمران:138]؟
    والجواب واضح وهو: أن هذا البيان والهدى والرحمة الذي أنزله الله تَعَالَى ما كَانَ يجعل فيه تعمية عَلَى العقول! بل حدى التأويل ببعض المؤولة إلى أن يؤولوا أحاديث الدجال فَقَالُوا: المقصود بالدجال الحضارة الغربية؛ لأنها حضارة عوراء فيها الجانب المادي وليس فيها الجانب العملي!
    والأحاديث التي فيها أنه رجل وأنه يخرج من المشرق ويمشي إِلَى المغرب ثُمَّ يقابله فتى يقول له كيت وكيت ومكتوب عَلَى جبهته كفر، قَالَ: هذه نؤولها! فيا ترى ما حال هَؤُلاءِ المؤولة عندما يظهر الدجال ويرونه بالوصف الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماهو موقفهم إذا تجلى الله لأهل الجنة ثُمَّ كشف الحجاب عن وجهه ورأوه؟ ماذا يكون موقف الذين ينكرون الرؤيا ذلك الوقت؟ فعلى الإِنسَان أن يحتاط لدينه.